شهد المغرب في الآونة الأخيرة موجة من الاحتجاجات غير المسبوقة، تصدرها جيل الشباب الذي أُطلق عليه اسم “جيل زد 212″، في تعبير واضح عن استياء متنامٍ إزاء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. لم تكن هذه الاحتجاجات مجرد حوادث معزولة، بل هي حلقة في سلسلة طويلة من الحركات الاجتماعية التي عرفتها المملكة عبر تاريخها، تعكس تحديات بنيوية عميقة تتصل بالعدالة الاجتماعية، وتدهور الخدمات العامة، وبشكل خاص قطاعي الصحة والتعليم. يطرح هذا الحراك الجديد تساؤلات جدية حول قدرة النموذج التنموي القائم على تلبية تطلعات شريحة واسعة من المواطنين، وخصوصاً الشباب منهم، الذين يشكلون قوة ديموغرافية واجتماعية حاسمة. الاحتجاجات بالمغرب
جذور الحراك: التعليم، الصحة، وكلفة التنمية
تتمحور المطالب الأساسية للاحتجاجات الأخيرة حول قضايا محورية تمس الحياة اليومية للمغاربة. في قطاع التعليم، يدعو المحتجون إلى توفير تعليم جيد ومجاني للجميع، وسد النقص الحاد في أعداد الأساتذة، ومكافحة الاكتظاظ في الفصول الدراسية، مع تحديث المناهج لمواكبة العصر. أما في قطاع الصحة، فالنقد يوجه نحو تردي الخدمات في المستشفيات العمومية، والنقص في التجهيزات والموارد البشرية. يربط المحتجون هذا التدهور بـالأولويات الاستثمارية للدولة، حيث ترفع شعارات تندد بـ “ميزانية الملاعب” على حساب “ميزانية المستشفيات”، في إشارة إلى الاستثمارات الضخمة المخصصة لتنظيم الأحداث الرياضية الكبرى ككأس العالم. هذا التباين في الإنفاق يغذي الشعور بـغياب العدالة الاجتماعية وتفضيل المشاريع الكبرى على حساب رفاهية المواطن الأساسية.
الجيل الجديد والتنظيم الافتراضي
ما يميز هذه الموجة الاحتجاجية هو طبيعة التنظيم اللامركزي الذي قادتها مجموعة “جيل زد 212” الشبابية، معتمدة بشكل أساسي على منصات التواصل الاجتماعي لتوحيد صفوف المحتجين وتحديد مواعيد ومواقع المظاهرات. هذا الاعتماد على العالم الافتراضي يمنح الحراك ديناميكية جديدة وقدرة أكبر على تجاوز آليات التأطير التقليدية للأحزاب والنقابات. إنه جيل يمتلك وعياً متزايداً بالحقوق والواجبات، ويرفض أشكال الفساد والمحسوبية، الاحتجاجات بالمغرب مطالباً بربط المسؤولية بالمحاسبة. كما أن طبيعة هذا التنظيم الشبابي، الذي يضم في صفوفه نسبة من القاصرين في بعض الأحداث، يجعل من عملية احتواء الحراك والتفاعل الحكومي معه أكثر تعقيداً وحساسية.
المقاربة الأمنية وتفاعل الحكومة
في مواجهة هذه الاحتجاجات، تباينت المقاربات. فمن جهة، شهدت بعض المدن تدخلاً أمنياً لفض المظاهرات التي لم تكن مرخصة، وهو ما وثقته منظمات حقوق الإنسان، مشيرة إلى اعتقالات وتوقيفات في صفوف المتظاهرين. وقد أدى هذا التوتر في بعض الأحيان إلى أعمال عنف وتخريب طالت ممتلكات عامة وخاصة، وهو ما أدانته الحكومة واعتبرته “تصعيداً خطيراً يمس بالأمن والنظام العام”، مع الإعلان عن وقوع وفيات وإصابات. من جهة أخرى، أعلنت الحكومة المغربية عن تفهّمها للمطالب الاجتماعية المشروعة، مؤكدة استعدادها للتجاوب الإيجابي والمسؤول معها عبر آليات الحوار والمؤسسات الدستورية. هذا التفاعل يضع الحكومة أمام اختبار حقيقي لمدى قدرتها على تقديم حلول واقعية وملموسة لمعالجة أوجه القصور في الخدمات الاجتماعية، بعيداً عن الوعود المؤجلة.
آفاق الحوار وفرصة الإصلاح
إن التحديات التي يطرحها الحراك الحالي ليست سطحية، بل هي متجذرة في الهيكل الاجتماعي والاقتصادي. فالبطالة في صفوف الشباب المتعلم، والفوارق الاجتماعية والمجالية، وضرورة محاربة الفساد هي قضايا تتطلب إصلاحات هيكلية عميقة. يمثل هذا الزخم الاحتجاجي فرصة للمغرب لتحويل لحظة الأزمة إلى فرصة للإصلاح الحقيقي، عبر تعزيز آليات الحوار التشاركي ودعم الاقتصاد الاجتماعي التضامني، وإعادة النظر في توزيع الثروات والأولويات التنموية. إن بناء الثقة بين الشباب والمؤسسات يتطلب خطوات عملية وسريعة تترجم الإرادة المعلنة للحكومة في التجاوب مع مطالب الكرامة والعدالة الاجتماعية. فاستدامة الاستقرار في المملكة المغربية، التي تنخرط في مشاريع تنموية كبرى، تظل رهينة بمدى الاستجابة الفعالة والمنصفة للتطلعات المشروعة لأجيالها الصاعدة.


