في تطور لافت في الأزمة السياسية الجارية في واشنطن، التي أدت إلى دخول الحكومة الفيدرالية الأمريكية في حالة إغلاق، وصف الرئيس دونالد ترامب هذا الموقف بأنه “فرصة غير مسبوقة” لخفض الإنفاق على البرامج التي يعتبرها من “أولويات الديمقراطيين”. تأتي هذه التصريحات الحادة في خضم حالة من الجمود السياسي العميق بين الجمهوريين، الذين يسيطرون على الكونغرس ويشغلون مقعد الرئاسة، وبين الديمقراطيين حول مشروع قانون التمويل الحكومي، حيث يرفض الجمهوريون تمويل بعض بنود الإنفاق الأساسية للديمقراطيين، لاسيما تلك المتعلقة ببرامج الرعاية الصحية. ترامب يعتبر إغلاق الحكومة
الإغلاق الحكومي كـ “أداة” للتقليص الهيكلي
يستخدم الرئيس ترامب الإغلاق الحكومي، الذي يشل عدداً كبيراً من الوكالات الفيدرالية ويضع مئات الآلاف من الموظفين في إجازة غير مدفوعة الأجر، كـ سلاح تفاوضي يتجاوز عملية الميزانية التقليدية. من منظور ترامب، فإن هذا الشلل يمثل لحظة نادرة يمكن فيها اتخاذ إجراءات جذرية لخفض الإنفاق على الأنشطة الحكومية “غير الضرورية” والبرامج التي يرى أنها تخدم أجندة الحزب الديمقراطي الليبرالية. وقد لوّح الرئيس صراحةً بأن استمرار الإغلاق قد يدفع إدارته إلى اتخاذ قرارات بتسريح “الكثير من الأشخاص” بشكل دائم، وليس مجرد إجازة مؤقتة، وهو ما يعتبر تصعيداً غير مسبوق في التعامل مع مثل هذه الأزمات.
تتجه استراتيجية ترامب نحو الاستفادة من التوقف المؤقت لعمل الحكومة لإحداث تغيير هيكلي عميق في الجهاز البيروقراطي الفيدرالي. يرى هو وأنصاره من المحافظين أن هناك “هدرًا” كبيرًا في الإنفاق على برامج الرعاية الصحية الموسعة، والخدمات المقدمة للمهاجرين غير الشرعيين، وبعض المبادرات البيئية والتعليمية التي عززها الديمقراطيون. ومن خلال الإغلاق، يحاول ترامب خلق ضغط شعبي وسياسي على الديمقراطيين لإجبارهم على التنازل عن هذه البنود في مفاوضات الميزانية النهائية.
نقطة الخلاف الجوهرية: الرعاية الصحية والمهاجرون
يدور الخلاف الجوهري الذي أدى إلى الإغلاق الحكومي حول قضايا الإنفاق الاجتماعي، وبشكل خاص تمديد الإعانات الضريبية الخاصة ببرنامج التأمين الصحي أوباماكير. يطالب الديمقراطيون بشدة بتمديد هذه الإعانات لتجنب ارتفاع حاد في الأقساط الشهرية لملايين الأمريكيين. في المقابل، يرفض الجمهوريون ذلك، ويرون أن هذه الإعانات تخدم أجندة توسيع دور الدولة في الرعاية الصحية، وهي سياسة تتناقض مع مبادئهم الاقتصادية.
كما أن مسألة تمويل رعاية المهاجرين غير الشرعيين تطفو على السطح كقضية خلافية رئيسية. يتهم الجمهوريون الديمقراطيين بمحاولة تمرير بنود إنفاق تسمح بتقديم رعاية صحية مجانية للمهاجرين غير الشرعيين على نفقة دافعي الضرائب الأمريكيين. وتُعتبر هذه النقطة، في نظر قاعدة ترامب الجمهورية، مسألة مبدئية تتعلق بـ سيادة الدولة واستخدام الأموال العامة، ويراها ترامب فرصة لـ “التخلص من الفاسدين” وتوفير المليارات، حسب وصفه.
تداعيات الإغلاق: شلل الأنشطة الحكومية والضغط على الموظفين
تأثير الإغلاق الحكومي بدأ يظهر بشكل واضح على حياة الأمريكيين والأسواق المالية. دخل نحو 750 ألف موظف في إجازة إجبارية غير مدفوعة الأجر، مما يؤثر على أمنهم المالي. ورغم استمرار الخدمات الحيوية مثل الجيش والأمن القومي، فإن عدداً كبيراً من الأنشطة الحكومية غير الأساسية قد توقف.
من المتوقع أن يؤدي استمرار الإغلاق إلى تأخير إصدار التقارير الاقتصادية الهامة، مثل تقرير الوظائف وتقرير التضخم، مما يزيد من حالة عدم اليقين في الأسواق ويضع البنك الاحتياطي الفيدرالي في مأزق عند اتخاذ قراراته المتعلقة بأسعار الفائدة. كما أن تهديد ترامب بـ تسريح دائم للموظفين الفيدراليين يمثل تصعيداً غير مسبوق. ففي الإغلاقات السابقة، كان يتم تعويض الموظفين عن الفترة التي أمضوها في الإجازة، لكن التهديد بالفصل الدائم يعكس نية الرئيس في استخدام هذه الأزمة كـ “رافعة” لإعادة هيكلة الجهاز الحكومي بالكامل.
لعبة إلقاء اللوم: مسؤولية من؟
في خضم الأزمة، تحولت الساحة السياسية إلى “لعبة إلقاء اللوم” المعتادة. يحمل الرئيس ترامب الديمقراطيين المسؤولية المباشرة، متهماً إياهم بالتعنت وسعيهم إلى تمرير مشاريع قوانين وتمويلات يرفضها الشعب الأمريكي. في المقابل، يؤكد زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، أن ترامب هو من يتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الإغلاق، واصفاً إياه بأنه “إغلاق ترامب”، ومشيراً إلى أن الرئيس هو من يرفض التوقيع على مشاريع قوانين التمويل بهدف فرض أجندته السياسية.
في حين يرى محللون أن كلا الطرفين يتحمل جزءاً من المسؤولية، إلا أن تصريحات ترامب الأخيرة تزيد من تعقيد المشهد، حيث أنها ترسخ فكرة أنه لا يرى الإغلاق كـ “فشل” يجب إنهاؤه، بل كـ “فرصة” يجب استغلالها لفرض رؤيته لـ “حكومة أصغر حجماً”. هذا الموقف المتصلب يقلل من فرص التوصل إلى اتفاق سريع، ويزيد من احتمالية استمرار الإغلاق الحكومي لفترة طويلة، ربما يكرر سيناريو الإغلاق الأطول في التاريخ الأمريكي الذي حدث في ولاية ترامب الأولى.
التوقعات المستقبلية والسيناريوهات المحتملة
لا تزال نهاية الإغلاق الحكومي غير واضحة، وتتضاءل التوقعات بإنهاء سريع للأزمة مع تمسك كل طرف بموقفه. يرى بعض الجمهوريين المعتدلين أن تكتيكات ترامب الحادة قد تأتي بنتائج عكسية، خاصة إذا استمر الشلل الحكومي لفترة طويلة وأثّر بشكل ملموس على الاقتصاد وحياة المواطنين.
السيناريوهات المحتملة تشمل: أولاً، تراجع الديمقراطيين والموافقة على خطة تمويل مؤقتة بدون البنود التي يرفضها ترامب، لتجنب المزيد من الأضرار الاقتصادية. ثانياً، تراجع الجمهوريين تحت الضغط الشعبي والسياسي، والموافقة على حل وسط يتضمن تمديداً قصيراً لتمويل بعض أولويات الديمقراطيين. السيناريو الثالث، وهو الأكثر تشاؤماً، هو استمرار الإغلاق الحكومي لفترة طويلة في محاولة من ترامب لتحقيق مكاسب سياسية دائمة على حساب العملية التشريعية التقليدية، مما يزيد من التداعيات على الاقتصاد الأمريكي. في كل الأحوال، فإن هذه الأزمة تعكس عمق الانقسام السياسي في الولايات المتحدة وتؤكد على أن معارك الميزانية لم تعد مجرد قضايا مالية، بل أصبحت أدوات صراع أيديولوجي حادة.


