يُعدّ المجلس الأعلى للجامعات في مصر الهيئة التنفيذية والرقابية العليا المسؤولة عن تنسيق وإدارة منظومة التعليم العالي والبحث العلمي بالبلاد، وهو بمثابة العقل المُدبّر الذي يخطط ويرسم السياسات العامة لجميع الجامعات المصرية، سواء الحكومية أو الخاصة والأهلية. ومنذ تأسيسه في عام 1950 بموجب مرسوم ملكي، ثم إعادة تنظيمه لاحقًا بموجب قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة 1972، ترسخ دور المجلس كركيزة أساسية لضمان جودة الأداء الأكاديمي، وتوحيد المعايير بين المؤسسات الجامعية المتعددة، بما يخدم أهداف التنمية الشاملة للدولة المصرية. إن دوره لا يقتصر على الجانب الإداري فحسب، بل يمتد ليشمل صياغة الرؤى المستقبلية التي تهدف إلى تخريج كوادر قادرة على المنافسة في سوق العمل العالمي ومواكبة الثورات المعرفية والتكنولوجية المتسارعة.
الاختصاصات المحورية للمجلس الأعلى للجامعات: تخطيط وتنظيم شامل
تتعدد المهام والاختصاصات التي يضطلع بها المجلس الأعلى للجامعات، وتتسم بطابع شمولي يغطي كافة جوانب العملية التعليمية والبحثية. ففي المقام الأول، يتولى المجلس رسم السياسة العامة للتعليم الجامعي والبحث العلمي على مستوى الجمهورية، ويتابع بصفة دورية تنفيذ هذه السياسات والقرارات في جميع الجامعات لضمان تحقيق الأهداف القومية والاجتماعية والاقتصادية. ويشمل ذلك تحديد وإنشاء تخصصات الأستاذية في الجامعات، وهو ما يضمن توزيع الكفاءات الأكاديمية على نحو يلبي الحاجات الفعلية للقطاعات التعليمية المختلفة.
ومن الاختصاصات الحيوية الأخرى للمجلس، مسؤوليته عن تنظيم قبول الطلاب في الجامعات وتحديد أعدادهم، وهو دور محوري يهدف إلى تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص بين الطلاب من جهة، وموازنة الطاقة الاستيعابية للجامعات مع متطلبات سوق العمل من جهة أخرى. كما يلعب المجلس دورًا رقابيًا هامًا من خلال التنسيق بين نظم الدراسة والامتحانات والدرجات العلمية في الجامعات، وبين الكليات والأقسام المتناظرة، مما يضمن توحيد مستوى الخريجين والحفاظ على الجودة الأكاديمية. ولا يمكن إغفال دوره الأساسي في معادلة الدرجات العلمية الممنوحة من المؤسسات التعليمية غير الخاضعة لقانون تنظيم الجامعات أو الشهادات الأجنبية، وهي عملية ضرورية لدمج هذه المؤهلات في النظام التعليمي والمهني المصري.
استراتيجيات التطوير: التحول الرقمي ومواكبة سوق العمل
في إطار سعيه لتحقيق رسالته ورؤيته الطموحة، يتبنى المجلس الأعلى للجامعات مجموعة من الاستراتيجيات التي ترتكز على مواكبة التحولات العالمية. ومن أبرز التطورات التي يشهدها التعليم العالي المصري بتوجيه من المجلس، هو التركيز على التحول الرقمي، والذي أصبح متطلبًا أساسيًا لمواجهة التحديات التقنية الحديثة. ويظهر هذا التوجه جليًا في قرار المجلس باعتماد شهادة أساسيات التحول الرقمي (FDTC) كمتطلب لمنح أي شهادة من الدراسات العليا، بما في ذلك الدبلومات والمعيدين والمدرسين المساعدين، وهو قرار صدر في يناير 2022 بهدف نشر ثقافة التحول الرقمي وتزويد الكوادر الأكاديمية والإدارية بالمهارات الرقمية اللازمة.
كما يولي المجلس أهمية قصوى لـتطوير البرامج والمناهج الدراسية لتكون “مستجيبة لمتطلبات سوق العمل” الإقليمي والدولي. ويعمل المجلس على تصميم برامج دراسية تحقق استمرارية التطوير وتتوافق مع نظم الدراسة الأكثر شيوعًا عالميًا، مما يعزز من فرص خريجي الجامعات المصرية في أسواق العمل. وفي هذا السياق، كان لإنشاء الجامعات الأهلية دور كبير في تعويض النقص وسد الفجوة في مجال التعليم، وتقديم مسارات تعليمية متنوعة ذات جودة عالية لا تهدف إلى تحقيق الربح، بل إلى استيعاب الزيادة المتزايدة في الطلب على التعليم الجامعي. إن هذا التنوع في أنماط التعليم يساهم في بناء منظومة تعليمية وطنية متكاملة ومرنة.
تحديات الحاضر ورؤية المجلس للمستقبل
على الرغم من الإنجازات المحققة، يواجه المجلس الأعلى للجامعات جملة من التحديات المعقدة، يأتي في مقدمتها التحدي المتعلق بـالزيادة السكانية والطلب الاجتماعي المتنامي على التعليم الجامعي. إن هذه الزيادة تفرض ضغطًا مستمرًا على الجامعات الحكومية وتتطلب توفير بيئة تعليمية مناسبة وموارد كافية لضمان الجودة، وهي تحديات يسعى المجلس لمواجهتها من خلال التوسع في إنشاء الجامعات الجديدة، وتعزيز مفهوم التعلم مدى الحياة.
كما يشكل تطوير أعضاء هيئة التدريس تحديًا مستمرًا، حيث يعمل المجلس على تطبيق آليات تقييم الأداء وضمان الجودة، وتوفير نظام إلكتروني متكامل لتسهيل إجراءات ترقيات أعضاء هيئة التدريس، ويشمل ذلك فحص الاقتباس وحساب معامل التأثير للمجلات العلمية، لضمان أن تكون الترقية مبنية على التميز العلمي والبحثي الفعال. ويستمر المجلس في دعمه لـالتعاون العلمي والبحثي مع الجامعات الأجنبية وإبرام اتفاقيات التوأمة، بهدف استيفاء المعايير الدولية ورفع مكانة التعليم المصري عالميًا. وتترسخ رؤية المجلس المستقبلية في تحقيق “تعليم جامعي يدفع بالتنمية البشرية”، و”إعداد خريج متميز قادر على المنافسة”، بما يحقق الربط بين التعليم وحاجات المجتمع والإنتاج. إن المجلس الأعلى للجامعات لا يدير المنظومة التعليمية فحسب، بل يصنع مستقبلها، مؤكدًا على التزامه بالاستدامة والابتكار والريادة.


