شهدت مياه البحر الأبيض المتوسط في عام 2010 حادثة هزت الرأي العام العالمي، وغيرت مسار العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، وهي حادثة اعتراض أسطول الحرية لغزة، والذي كان يهدف إلى كسر الحصار البحري المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007. هذا الأسطول لم يكن مجرد سفن تحمل مساعدات إنسانية، بل كان رمزًا عالميًا للتضامن الشعبي والدولي مع الشعب الفلسطيني، ومحاولة جريئة لتسليط الضوء على الأزمة الإنسانية الخانقة في القطاع المحاصر.
رحلة التحدي الإنساني: انطلاق أسطول الحرية
في أواخر مايو 2010، انطلق “أسطول الحرية الأول” في رحلة محفوفة بالمخاطر. كان الأسطول يتكون في البداية من ثماني سفن، لكن ست منها فقط واصلت الرحلة باتجاه غزة بعد تعطل اثنتين لأسباب فنية. كانت هذه السفن تحمل على متنها نحو 10 آلاف طن من المساعدات الأساسية، بما في ذلك الأغذية والأدوية ومواد البناء، وهي مواد كانت تشتد الحاجة إليها في غزة التي كانت تعاني من نقص حاد بسبب الحصار المستمر. الأهم من ذلك، حمل الأسطول على متنه قرابة 750 ناشطًا من أكثر من 36 دولة، يمثلون منظمات مجتمع مدني، وبرلمانيين، وصحفيين دوليين، ونشطاء حقوق إنسان، وكانوا جميعًا متحدين تحت راية “تحالف أسطول الحرية” و”حركة غزة الحرة”، بهدف إيصال رسالة واضحة للعالم: “يجب رفع الحصار عن غزة”.
نقطة انطلاق الأسطول كانت موانئ لدول مختلفة في جنوب أوروبا وتركيا، وتجمعت السفن قبالة مدينة ليماسول في جنوب قبرص، قبل أن تبدأ الإبحار نحو قطاع غزة في 29 مايو 2010. وكانت السفينة التركية “إم في مافي مرمرة” أبرز سفن الأسطول، ورافعة لواء هذه المبادرة الإنسانية. كان الدافع وراء هذه الرحلة هو التأكيد على أن الوضع الإنساني في غزة، الذي يضم 1.5 مليون شخص، كان قد وصل إلى مستويات كارثية بعد ثلاث سنوات من الحصار.
الهجوم في المياه الدولية: مجزرة “مافي مرمرة“ ⚔️🛳️
في الساعات الأولى من صباح 31 مايو 2010، وفي المياه الدولية، على بعد حوالي 75 ميلًا بحريًا من شواطئ غزة، تعرض الأسطول لاعتراض وهجوم عسكري إسرائيلي غير مبرر. تمثل الهجوم في اعتراض زوارق حربية وطائرات مروحية للأسطول، وبدأت القوات الخاصة الإسرائيلية بإنزال الجنود على سطح السفن، خاصة سفينة “مافي مرمرة”. ووفقًا لشهادات النشطاء، تم الهجوم دون سابق إنذار واضح في المياه الدولية، وهو ما اعتبره القانون الدولي عملاً عدوانيًا.
تصاعدت الأحداث على متن سفينة “مافي مرمرة” لتتحول إلى مجزرة. أسفر الهجوم عن استشهاد 10 من المتطوعين، معظمهم من الأتراك، وإصابة أكثر من 50 شخصًا بجروح بليغة. ادعت القوات المهاجمة أنها اضطرت للدفاع عن نفسها بعد تعرضها لهجوم بأسلحة بدائية من ركاب السفينة، بينما أكد الركاب أنهم حاولوا الدفاع عن السفينة وركابها بعد تعرضهم لاعتداء مفاجئ بالرصاص الحي والجنود المدججين بالسلاح. بعد السيطرة على السفن، تم اقتيادها إلى ميناء أسدود الإسرائيلي، وتم اعتقال جميع المشاركين الذين تجاوز عددهم 700 شخص، ومصادرة حمولة الأسطول. ورغم إطلاق سراح النشطاء لاحقًا، إلا أن المساعدات الإنسانية لم تصل إلى غزة إلا بعد أسابيع وتحت إشراف الأمم المتحدة.
تداعيات دولية وأزمة دبلوماسية 💔🇹🇷
خلف الهجوم على أسطول الحرية ردود فعل دولية غاضبة واسعة النطاق، وتحول إلى قضية سياسية وإعلامية دولية بامتياز. استنكرت العديد من الدول والحكومات والمنظمات الدولية هذا الاعتداء، ودعت إلى إجراء تحقيق دولي مستقل. وقد قرر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق دولية في الهجوم، والتي أصدرت نتائج أولية تدين القوة المستخدمة من قبل إسرائيل في المياه الدولية.
كانت أبرز التداعيات هي الأزمة السياسية والدبلوماسية الحادة التي فجرها الهجوم بين تركيا وإسرائيل. استدعت تركيا سفيرها وخفضت العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى القائم بالأعمال، وعلقت جميع الاتفاقيات العسكرية، مطالبة باعتذار رسمي وتعويضات. لم تُحل هذه الأزمة إلا بعد سنوات، حيث اعتذر رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، بنيامين نتنياهو، عن الأخطاء التي وقعت، وقدمت إسرائيل تعويضات لأهالي الضحايا عام 2016، مما أدى إلى إسقاط الدعاوى الجنائية والمدنية المرفوعة ضد القادة الإسرائيليين في تركيا.
أهمية الأسطول في سياق القضية الفلسطينية 🇵🇸
بالرغم من فشل أسطول الحرية الأول في الوصول المادي إلى ميناء غزة وكسر الحصار البحري بشكل فعلي ومستدام، إلا أن رحلته ومصيره شكلا نقطة تحول مهمة في الصراع. لقد نجح الأسطول في تحقيق انتصار سياسي وإعلامي وأخلاقي غير مسبوق، تمثل في:
أولاً: تسليط الضوء على الحصار: نجح الأسطول في وضع حصار غزة، الذي كان مهملاً لسنوات، على رأس الأجندة الدولية، وزيادة الزخم العالمي المطالب بإنهاء هذا الحصار. لقد حظي حصار غزة باهتمام دولي غير مسبوق، وأجبر العالم على الاعتراف بفظاعة الأزمة الإنسانية.
ثانيًا: تخفيف الحصار: تحت وطأة الإدانة الدولية والضغط الدبلوماسي، اضطرت إسرائيل إلى تخفيف بعض قيود الحصار المفروضة على قطاع غزة بعد الحادثة، خاصة فيما يتعلق بإدخال بعض السلع المدنية ومواد البناء، ولو بشكل محدود.
ثالثًا: إحياء التضامن الدولي: عزز الأسطول من حركة التضامن الشعبي العالمي مع القضية الفلسطينية، وأكد على أهمية ودور الناشطين والمجتمع المدني في دعم غزة وتحدي السياسات الإسرائيلية. ألهمت هذه المبادرة ظهور قوافل لاحقة من أساطيل الحرية، على الرغم من تعرضها للاعتراض، مما يؤكد استمرار النضال المدني لإنهاء الحصار.
في الختام، يظل أسطول الحرية لغزة 2010، وبشكل خاص أحداث سفينة “مافي مرمرة”، رمزًا للتضحية الإنسانية في سبيل التضامن وكسر الحصار، ونقطة فاصلة كشفت عن تباين المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية، وأثبتت أن النضال من أجل حقوق الفلسطينيين يمكن أن يتخذ أشكالًا مدنية ومواجهة في أعالي البحار. هذا الحدث، بكل تداعياته، كان تذكيراً صارخاً بضرورة إنهاء الحصار بشكل كامل وغير مشروط، ومنح الشعب الفلسطيني حقه في الحياة الكريمة والحرية.


